الحوار التركي السوري ، قراءة في السياق والتحولات .
د.تدمري عبد الوهاب
كثر الحديث مؤخرا عن امكانية عودة العلاقات السورية التركية الى طبيعتها بعد سنوات من الحرب والعداء التركي تجاه الدولة السورية .لكن ماذا تغير في الأسباب التي برر بها النظام التركي تدخله السافر في بلد جار ،كانت تجمعه به علاقات صداقة و مشاريع اقتصادية و تجارية مهمة .وكانا على وشك خلق أكبر منطقة اقتصادية حرة على حدودها المشتركة وذاك قبل أن يبدأ ما سمي” بالربيع العربي” سنة 2011. حين تصدرت تركيا الاخوانية كوكبة الراغبين في تغيير النظام السوري بالقوة تنفيذا لمشروع امريكي اسرائيلي كان يسعى الى تفكيك دول وشعوب منطقة الشرق الأوسط ونشر الفوضى الطائفية والقبلية خاصة في تلك الدول المصنفة “مارقة ” . كما كان الشأن مع العراق الذي لا زال يعاني نظامه السياسي من طائفية معيقة رسخها دستور بول بريمر لسنة 2004 . وكذا ليبيا التي بعد مرور أكثر من ثلاثة عشرة سنة عن إسقاط النظام السابق لا زالت تعاني من فوضى الانقسام القبلي والطائفي . وهو نفسه المشروع الذي استهدف سوريا وحفز الأطماع التاريخية لتركيا، في أجزاء من هذا البلد ، للتدخل بذريعة محاربة الدكتاتورية و الدفاع عن الديمقراطية ومصالح الشعب السوري وذلك عبر التدخل المباشر واحتلال أراضي سورية تحت يافطة حماية الأمن القومي التركي . وعبر فيالق الإرهاب الجهادي العالمي الذي شرعت له الحدود و سلمت له المعابر التي تربطها بسوريا ليفتك بالبشر والتراث الحضاري والبنيات التحتية .
لكن ماذا استجد ليتم الحديث عن قرب عودة العلاقات التركية السورية الى طبيعتها ؟. هل تغير النظام السوري، الذي وإن اختلف معه ، الا انه يعد نظاما وطنيا متقدما على الكثير من الانظمة في منطقة الشرق الأوسط التي تصدرت ،الى جانب تركيا ،الحرب على سوريا ؟. أم أن التغيير الحاصل في العلاقات الدولية نتيجة احتدام الصراع الاستراتيجي في السنين الأخيرة بين قوى عالمية جديدة تسعى لتقويض الهيمنة الامريكية الاطلسية على العالم بهدف اقامة نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب، هو من أرخى بظلاله على المنطقة و اصبحت دولها تتلمس مخاطر التجزئة والصراعات البينية التي تضر بمصالح شعوبها، مما دفعها لمراجعة علاقتها ببعضها ، وترجم الى مصالحات تاريخية بين دول طالما اعتبرت عدوة لبعضها البعض: كالعلاقات السعودية الايرانية / والمصرية الايرانية/ والتركية المصرية /والخليجية السورية وآخرها العلاقات التركية السورية. .
استحضر هذا التقديم للتأكيد على ما تطرقت له في مقالات سابقة .حين قلت ان دول المنطقة يجمعهما مصير مشترك .وأن امنها الاقليمي يعد شأنا مشتركا . وصياغته بشكل جماعي هو السبيل لتحديد مستقبل منطقة الشرق الأوسط التي تعد من المناطق الأكثر حساسية في العالم و تكثف بشكل جلي الصراع الاستراتيجي الدولي الحالي. وأن الاستعانة بقوى عالمية خارجية كما كان الشأن مع بداية الأزمة السورية وما تخللها من تدخلات لقوى محلية متنافسة على الزعامة كالسعودية وتركيا اللتان انخرطتا في الاجندة الامريكية الاسرائيلية القاضية بتفتيت الدول التي تعتبرها مارقة، لم يكن يخدم المصالح الاستراتيجية لهاتين الدولتين .لأن الأهداف الأمريكية من المشروع لم تكن تصب لا في صف تركيا ولا في صف السعودية ،بل فقط تروم الى خلق حالة من عدم الاستقرار والفوضى الأمنية التي تأبد سيطرتها وسيطرة إسرائيل على المنطقة .اضافة الى محاصرة إيران التي اختارت موقعا مغايرا في الصراع ، بعد أن انخرطت الى جانب القوى المقاومة للمشروع الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط واخص بالذكر روسيا والصين.
لكن بالمحصلة، وبعد كل هذا الدمار، تستشعر هذه الدول أهمية العمل المشترك لبلورة مفهوم جديد للأمن الإقليمي الجماعي عبر مصالحات تاريخية سبق ذكرها ، ليأتي الدور على المصالحة التركية السورية ،بعد أن طبعت هذه الاخيرة علاقتها بدول الخليج وجامعة الدول العربية الذين أقروا بشرعية الدولة السورية على مضض.
لكن ان كان التطبيع السوري مع محيطه العربي خاصة الإمارات والسعودية اتسم ببعض السلاسة بعد أن فقدت هذه الدول تأثيرها على الفصائل المسلحة الجهادية التي كانت تدعمها .إلا أن تركيا الحاضنة لملايين اللاجئين السوريين، و من خلفها قطر الداعمة ماليا لفصائل الجهاد الإخواني والقاعدي في إمارة إدلب السورية ،اضافة الى تمدد جيشها في بعض مناطق الشمال الشرقي لسوريا تحت مبرر الحفاظ على الأمن القومي التركي ضد قسد المحمية أمريكيا ،و التي تلعب دور الكومبارس في المشروع الذي تخطط له أمريكا في الشرق الأوسط، وذلك بعيدا عن ما يعتقده البعض حماية للشعب الكردي .كل هذا يجعل من هذه المصالحة مسألة معقدة تتشابك فيها الفرص والمخاطر التي أوجدها النظام التركي الحالي، و أصبح سجينا لها . في مقابل النظام السوري الذي يتواجد في منطقة مريحة نسبيا في هذه المعادلة بعد أن آمن ثلثي البلاد بمساعدة قوية من روسيا وإيران وعينه حاليا على امارة إدلب المحاذية لتركيا التي تحوي آلاف الجهاديين من مختلف الجنسيات ويشكلون تهديدا كبيرا لأمن الشعب التركي بالدرجة الأولى ، خاصة بعد أن تهاوى مشروعهم الهادف لقلب النظام . اضافة الى منطقة شرق الفرات حيث تتحصن قسد بمساعدة أمريكية وتعمل على تأسيس كيان مستقل للشعب الكردي. و هو ما تراه الدولة التركية العميقة تهديدا لها وعاملا مشجعا للكرد للمطالبة بالمثل في تركيا الذين يشكلون فيها ثلث سكان البلاد. أن هذا الوضع الغير المفكر فيه من طرف من وضعوا الاستراتيجية التركية إزاء سوريا في بداية الحرب عليها ، أصبح يحاصر النظام التركي أكثر من النظام السوري .وهو ما دفع تركيا إلى البحث عن حلول لهذه المعضلات التي أوجدتها بعد أن تغيرت الكثير من الأمور في المنطقة نتيجة تطور الصراع الاستراتيجي الدولي .و صمود الدولة السورية بمساعدة أصدقائها. خاصة ان امريكا الحليف التقليدي لتركيا مستمرة في دعم الأكراد السوريين و ضمنيا باقي الأكراد المتواجدين في دول أخرى. وذلك بهدف خلق بؤرة توتر في المنطقة ضدا على مصالح دول الجوار بما فيها تركيا، الحليفة التقليدية لأمريكا ، التي لن تسمح بقيام دولة كردية مهما كلف ذلك من أثمان .
بالتالي لم يتبقى للدولة التركية سوى الاستمرار في مخرجات استانا التي ترعاها روسيا لحل الازمة السورية .وكذا الدخول في مفاوضات مباشرة مع النظام السوري الذي فرض نفسه بعد ان تراجعت معارضاته ،و تراجع داعميها من دول المنطقة والغرب الاطلسي الذين انشغلوا بصراعات أخرى تهدد هيمنتهم على العالم كالحرب الروسية الأوكرانية، والصراع المحتدم في بحر الصين الجنوبي ،و في أفريقيا التي بدأت دولها تنحاز شرقا بعد ان تخلصت من تبعيتها للغرب الأطلسي .
إن الحوار التركي السوري يبقى حاجة موضوعية مشتركة لكلا البلدين .و هو الخيار الوحيد لتركيا لحل معضلة المهاجرين السوريين على الأراضي التركية التي أصبحت ورقة قوية في يد المعارضة التركية، بالاضافة الى باقي الملفات الامنية الناتجة عن الوضع الذي أوجدته في الشمال و الشمال الشرقي السوري . ان حل هذه القضايا يتطلب مقاربة معقدة وخارطة طريق قائمة على العناصر التالية:
1/ : الاعتراف التركي بوحدة الأراضي السورية، ومن ثم اجرأته عبر تعاون وثيق يمكن الجيش السوري من العودة التدريجية الى مناطق سيطرة الجيش التركي، و الى كل نقاط المراقبة التي يتواجد فيها .
2/:اجتثاث منابع التمويل التي تتمتع بها الجماعات الارهابية في ادلب التي تأتيها من الحدود التركية و من محميتها قطر ،ومن المخابرات الأمريكية .
3/: العمل مع باقي شركاء أستانا والصين على إعادة إعمار المناطق والمدن المدمرة نتيجة التدخل التركي والجماعات الإرهابية الممولة تركيا وقطريا خاصة في الشمال والشمال الشرقي لسوريا .
4/ : تأمين عودة آمنة و متدرجة للاجئين المتواجدين على الأراضي التركية .
5/ : فتح الحوار مع الجماعات المسلحة المعتدلة الراغبة في العودة إلى وطنهم سوريا .
6/ : استعمال القوة العسكرية المشتركة السورية التركية والروسية لإخراج الإرهابيين ولو بالقوة من المناطق التي تحصنوا فيها .
7/ : تمكين الجيش السوري بالمساعدات اللوجستية والمالية والعسكرية لضمان أمن الحدود المشتركة السورية التركية بضمانات روسية .
8/ : على الدولة السورية في المقابل
فتح حوار وطني داخل سوريا مفتوح على كل المعارضات الوطنية بهدف التوصل الى إصلاحات سياسية ودستورية تفضي الى الدولة الديمقراطية المتعددة بخصوصياتها الجهوية.
9/ :وضع دستور يؤمن ممارسة سياسية ديمقراطية ضامنة للحريات و قائمة على مبدأ الديمقراطية التشاركية ،وفصل الدين عن الدولة ،وربط المسؤولية بالمحاسبة ،و ضمان حقوق متساوية لكل قوميات وطوائف الشعب السوري بعربه و اكراده و مسلميه ومسيحييه الخ ..مع الاعتراف بالثقافة و باللغة الكردية لغة وطنية .
10/ : تغيير اسم الدولة من الجمهورية العربية السورية الى الجمهورية السورية، والجيش العربي السوري إلى الجيش الوطني السوري ،وحذف جميع رموز التعصب العرقي والطائفي من المناهج الدراسية و المراسلات الادارية الرسمية.
11/: وضع برنامج زمني لإجراء انتخابات حرة ونزيهة .
طنجة في 21 يوليوز 2024